يظن البعض وللوهلة الأولى أن سقوط تركيا يشكل فرصة تاريخية للثأر من هذه الدولة التي عبثت بالكثير من أنظمة وشعوب دول الربيع العربي بسياساتها الهوجاء, وعبر ما يسمى بالجماعات الجهادية والتي عمدت إلى إنشاء جزء منها, وتمويل وتدريب الجزء الآخر ثم تصديرها إلى شتى البقاع لتعميم الفوضى الخلاقة المهيأة لبيئة خصبة من التطرف والإرهاب. لكن ما الذي ستجنيه شعوب وأنظمة المنطقة فيما إذا سقطت تركيا؟ وما الغاية من سقوطها؟ و هل هي غاية أم وسيلة؟ وعلى أي الدول يكون أبرز تداعياتها, ولماذا؟ وفيما يلي نحاول الإجابة على هذه التساؤلات.
تحتل تركيا موقعاً استراتيجياً هاماً يجعلها محل أطماع أوروبا وأمريكا, فهي تسيطر على طرق عالمية, وتشرف على ممرات مائية هامة تهيمن بها على الممر “الشرقي الغربي” الواصل بين أوروبا وأسيا, وعلى الممر “الشمالي الجنوبي” بين البحر المتوسط والبحر الأسود, وهنا تأتي الأهمية الاستراتيجية لتركيا لتشكل مدخلاً جباراً للصهيوأمريكية (أمريكا/إسرائيل) لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد, خاصة أن هذه النقطة هي المدخل الملائم, والسلاح ذو الحدين الذي يمكن به القضاء على (أوروبا, وروسيا وإيران) في آن.
فبالنسبة لأوروبا يشكل سقوط تركيا مدخلاً مناسباً لأمريكا لإنهاء السيطرة الاقتصادية لأوروبا والإحلال محلها, ولتنفيذ هذا البرنامج فقد تلجأ أمريكا للإيعاز لبعض حلفاءها في أوروبا, و ربما أسيا لمساعدتها في تقييض الكيان التركي-وعلى رأس هؤلاء تأتي بريطانيا و إيران- مع إعطاء وعود بالإحلال محلها, أو على الأقل تفادي شرها, في حين نرى تركيا وقد عمدت في الفترة الأخيرة على تصدير إعداد مهولة من الإرهابيين من مجاهديها إلى دول أوروبا, كما استغلت قضية اللاجئين في ابتزاز الاتحاد الأوروبي, وبهذا تكون السياسة الأمريكية قد أفلحت في (ضرب رأسين معاً) ولصالحها, وهو ذات السيناريو الذي سبق و أن اعتمدته في الحرب العالمية الأولى إبان عهد الإمبراطورية العثمانية.
أما بالنسبة لروسيا فلكي تتخلص أمريكا منها, فإن عليها أن تعبر هذا المنفذ, وأن تتخلص من تركيا لتفرض هيمنتها على خط الساحل الروسي, حيث أن وجود الأساطيل الأمريكية (أو أساطيل حلفاء حربها بالوكالة) في البحر الأسود يعني إخلاء الطريق تماماً أمام جيوشها لغزو روسيا, وليس من المستبعد أيضاً أن تساعد بريطانيا أمريكا في ذلك, خاصة إذا أنهكت السياسة الصهيوأمريكية بريطانيا فيما تشنه على أوروبا من حروب “بالوكالة” تنهض بها الجماعات والتنظيمات الجهادية مثل (داعش والقاعدة وجبهة النصرة), مستغلة في ذلك خشية بريطانيا من دخول الأسطول الروسي للبحر المتوسط, وهو ما يهدد شريان الحياة البريطاني, في حين يزعزع ذلك طموح الصهيوأمريكية و مصالحة الاقتصادية القومية.
وهنا تكون منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها إيران قد فقدت الظهير العسكري –الأقوى- لديها, وبات عليها مواجهة القوة العالمية الأكبر دون امتلاكها لظهير يوازيها أو يعاضدها, إضافة لضرورة مواجهة إيران لبريطانيا والتي ترى في موقع إيران سد منيعاً وحاجزاً قوياً أمام طريقها البرية إلى الهند, كما أن زعزعة أمن واستقرار روسيا يعني خلخلة النفوذ الإيراني, وذلك كون إيران تمتلك حدوداً طويلة جداً مع روسيا, ما يعني بالضرورة سهولة السيطرة على النفط الإيراني الذي يغذي الاقتصاد البريطاني, خاصة أن إيران هنا تصبح محاصرة من أمامها وخلفها.
ومن الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى أن السياسة الصهيوأمريكية تعتمد وبدرجة رئيسية في كل هذا البرنامج الذي يبدو واضحاً وبجلاء للمتابع على الثارات التاريخية لكل الفاعلين فيه, فإيران كانت تحتلها ثلاث دول منها روسيا وبريطانيا, وقد تستغل أمريكا ذلك في الإيعاز لإيران بضرورة التخلص من روسيا لأنها صاحبة طموح وأطماع تاريخية فيها, كما أنها قد تعمد بالمثل بالإيعاز لروسيا بضرورة التخلص من إيران كونها نظام إسلامي قد يغدو متشدداً وهو ما تحاربه روسيا, في حين أن روسيا تمثل الشيوعية المعادية للإسلام المتشدد, وبالمثل هو النظام التركي وكلاهما دولتان إسلاميتان بديمقراطية مستوردة, و لا تروقان لأمريكا وتسعى للخلاص منهما.
أخيراً نقترح على الفاعلين في هذا البرنامج تصفير عداد سياساتهم الخارجية, والبدء من جديد وفق اتفاق مشترك وجاد لتجنيب المنطقة ويلات المشاريع الصغيرة, والتحالفات المزدوجة والمتداخلة, خاصة أن السياسة الأمريكية وكما يبدو لا تتغير, وعادة ما تستحضر سياسات الماضي لتجعلها منهج المستقبل, وسيكون فشلها ذريعاً, وسقوطها مدوياً فيما لم تم تدارك الأمر والعمل وفق رؤية جديدة تراعي مصالح الجميع.